هذا اليوم كان موعد طلاب الثَّانويَّة العامَّة مع أوَّل امتحانٍ بنظام (البوكليت )؛ حيث امتحنوا يومها مادَّة اللُّغة العربيَّة.
وفي الامتحان، وتحديدًا في سؤال الإعراب، طُلِب من الممتحنين إعراب كلمة (يوميًّا ) في عبارة “فلنعوِّد أنفسنا على ممارسة تلك الرِّياضة يوميًّا “.
وكالعادة، تنوَّعت إجابات الطُّلاب، ولن أستغرب أن يكون عشرات الآلاف من الطَّلاب قد أعربوها فاعلا مثلا، أو مضافًا إليه، أو غير ذلك من الوجوه التي لا يمكن أن تتَّسق مع نصبها الواضح لكلِّ عينٍ مبصرةٍ؛ فهكذا تعوَّدنا من طلاب يكرهون النَّحو بالوراثة؛ لأنَّهم حُرِمُوا من مناهج تحبِّبهم في النَّحو، ومن مسئولين بالتَّربية والتَّعليم يُختارون غالبًا بـ (الواسطة )؛ فيكون من الطَّبيعيِّ أن يكونوا فقراء في كلِّ شيء، فاشلين، معدومي المواهب، لا يعرفون ما للنَّحو من أهمِّيَّة، ولا يتعاملون معه إلا بكلِّ استخفاف؛ باعتبار النَّحو (مالوش صاحب )!!
المهمُّ .. تنوَّعت الإجابات بالتَّأكيد، كما تتنوَّع في أيِّ سؤالٍ آخر، ولكنَّ المشكلة ظهرت عندما اتَّضح أنَّ نموذج الإجابة قد اعتمد إعراب هذه الكلمة ظرفًا.
ثار المعلِّمون والمصحِّحون، واعتبروا أنَّ إعرابها (نائبًا عن المفعول المطلق ) صحيح وجائز أيضًا [هكذا يسمُّون النَّائب عن المصدر .. وهكذا يصرُّون: نائب عن المفعول المطلق، وهكذا ترد في جميع الكتب الخارجيَّة، ولله في خلقه شئون!! ].
ورأى جزء آخر من المعلِّمين لا يُستهان به جواز إعرابها حالا (بالمرَّة )، وحمدتُ الله أنَّه لا يوجد طالب واحد (غالبًا ) على مستوى الجمهوريَّة أعربها مبتدأ أو خبرًا، وإلا لوجدنا المعلِّم الفاضل الذي يعطيه درسًا خصوصيًّا يخرج علينا بالأدلَّة والبراهين على جواز إعرابها مبتدأ أو خبرًا أيضًا!!!!
وفي وسط مناخ هيستيريٍّ، أسقط في يد مسئولي الوزارة، وهروبًا من المسئوليَّة، ورغبةً في إرضاء جميع الأطراف، أصدر سيادة المستشار قرارًا باعتماد جميع هذه الإجابات كإجاباتٍ صحيحةٍ!!
وهكذا خرج الجميع من هذه المعمعة سعداء:
1 – الطُّلاب الذين لا يعنيهم إلا الدَّرجة التي ستُضَاف إلى مجموعهم الكلِّيِّ، وهو ما سيثقِّل موازينهم أمام مكتب التَّنسيق.
2 – أولياء الأمور الذين لا يعنيهم أيضًا إلا ما سيزيده مجموع أبنائهم، ولو بغير حقٍّ.
3 – مسئولو الوزارة الذين وجدوا الحلَّ السِّحريَّ للهروب من هذه (المطحنة ) التي كان يُفترَض أن تدقَّ عظامهم، وتقضي على مستقبلهم المهنيِّ، في ظلِّ مناخ عامٍ شديد الحساسيَّة لأيِّ خطأ يتعلَّق بامتحانات الثَّانويَّة العامَّة، مهما كان هيِّنًا، وما يتلوه غالبًا من إجراءاتٍ عقابيَّةٍ شديدة الوطأة هي السَّبيل الوحيد لامتصاص بعض الغضب.
4 – مدرِّسو الدُّروس الخصوصيَّة، وهم الوجه الأسوأ في هذا اليوم، وهذه المحنة التي عاشها النَّحو؛ لأنَّهم معلِّمو النَّحو وحرَّاسه، فإذا بهم يساهمون بكلِّ قوَّتهم في هذا الابتزاز، وتلك المزايدات الرَّخيصة، حيث كان هدف كلٍّ منهم ترجيح الإجابة التي يتوقَّع أنَّ طلابه قد أجابوا بها، مقرِّرين أن يقدِّموا مصلحتهم الخاصَّة على المصلحة العامَّة، وعلى شرف مهنتهم؛ متغاضين عن الجانب الأهمِّ والأساسيِّ وهو الاعتراض بكلِّ قوَّةٍ عن الإتيان بكلمةٍ خلافيَّةٍ، مستحدثةٍ في العربيَّة لم يتكلَّم بها العرب القدامى، وإظهار المعلِّمين بهذا المظهر المزري والمهين أمام طلابهم، وبدلا من المطالبة بمحاسبة المسئول عن هذه المهزلة، قرَّروا توظيف هذه المهزلة لصالحهم، والخروج بأكبر قدرٍ ممكنٍ من المكاسب، عن طريق ابتزاز المسئولين المرتعشين من هول ما ينتظرهم، واستغلال هذا الرُّعب لديهم لتمرير جميع الإجابات كإجاباتٍ صحيحةٍ، وهو ما حدث بالفعل.
كلُّ الأطراف استفادت، ووحده النَّحو أُهِين، ونزف حتَّى الموت!!
لا أتكلَّم هنا عن عدَّة وجوهٍ للإعراب، وهي الظَّاهرة التي توجد كثيرًا في النَّحو؛ فهذه هي طبيعة اللُّغة العربيَّة، ورغم أنَّ هذا شديد الإزعاج تعليميًّا؛ حيث إنَّ الإجابات القاطعة هي الأنسب في هذا المجال، إلا أنَّ هذه الظَّاهرة تبقى موجودةً، وبقوَّة، ولا سبيل لتجاهلها، أو الاعتراض عليها.
وإنَّما ما أثار حزني فيما حدث، فوق عدم حكمة واضع الامتحان ولا حصافته، والذي أراه غير جديرٍ بتلك المسئوليَّة العظيمة، وهي مسئوليَّة وضع امتحانٍ للثَّانويَّة العامَّة، وهو ما كان يستلزم منه أن يراجع كلَّ كلمةٍ مرَّاتٍ ومرَّات حتَّى لا يضع نفسه، والجميع، في مثل هذا الموضع المهين، خصوصًا وأنَّه في النّهاية بشر، خطَّاء، وهذا أيضًا لا سبيل لتلافيه، وإنَّما أكثر ما أثار شجوني ثلاثة أشياء:
الأوَّل: المشهد المهين الذي عاشه جميع معلِّمي اللُّغة العربيَة أمام طلابهم، وهم يتجادلون ويختلفون ويسفِّه كلٌّ منهم رأي الآخرين؛ فلم يملك الطُّلاب أنفسهم أن يقولوا: إذا كنتم – وأنتم المعلِّمون – عاجزين عن القطع بالإجابة، فما حالنا نحن؟ وكيف يؤتمَن هؤلاء على تقييم إجاباتنا، وتحديد مستقبلنا؟
والثَّاني: ما ظهر به النَّحو أمام الطُّلاب من أنَّه (مطَّاط )، كلُّ شيءٍ فيه جائز، وأنَّى لصبيةٍ في هذه السِّنِّ المبكِّرة أن يدركوا أنَّ هذه الظَّاهرة طبيعيَّة في النَّحو، ومقبولة، وتدلُّ على رحابة اللُّغة العربيَّة (رغم أنَّني شخصيًّا أضيق بهذه الظَّاهرة كثيرًا )؛ فكان من الطَّبيعيِّ أن يقولوا لأنفسهم: وما فائدة الدِّراسة والسُّؤال والامتحانات إذا كان كلُّ شيءٍ جائزا، وإذا كانت الإجابات خاضعةً للهوى؟!!
والثَّالث: إحساسي من الكثيرين وقتها أنَّ كلَّ ما يهمُّهم هو الاستفادة من هذه المهزلة، بغضِّ النَّظر عن خطورة الموقف الذي وضعنا فيه السَّيِّد واضع الامتحان.
ملاحظة على الهامش:
لم أكن أحبّ أن أناقش الإجابات المطروحة؛ حتَّى لا يبدو الأمر على أنَّه مجرَّد اختلافٍ على الوجه الإعرابيِّ الدَّقيق، ولكي ألقي الضَّوء أكثر على المشكلة الجوهريَّة والحقيقيَّة، والتي تتعدَّى مسألة الوجه الصَّحيح بمراحل، ولكنَّني قبل أن أختم رأيتُ أن أطرح عليكم رأيي الذي رأيته منذ اللَّحظة الأولى، وهي أنَّ هذه الكلمة تُعرَب ظرفًا، وقد حلَّلت الأمر وقتها كالتَّالي:
إذا قلتُ: أذهبُ إلى عملي كلَّ يومٍ، فإنَّ (كلَّ ) هنا تُعرَب نائبًا عن الظَّرف، ولا مبرِّر لإعرابها نائبًا عن الظَّرف إلا كون ما بعدها سيُعرَب ظرفًا في حالة حذف (كلّ )، وإذا حذفنا (كلّ ) فلا بديل ولا مساوي للجملة إلا قولنا: أذهب إلى العمل يوميًّا؛ حيث إنَّ (كلّ يوم ) = (يوميًّا )، وبذا تُعرَب يوميًّا ظرفًا.
تمامًا كما نقول في إعراب (كلّ ) نائبًا عن المصدر في باب المفعول المطلق في قولنا: أحترم معلِّمي كلَّ الاحترام، والمسوِّغ أيضًا إعراب ما بعد (كلّ )، في حالة حذف (كلّ ) مفعولا مطلقًا: أحترم معلِّمي احترامًا.
ولكنَّني – رغم ذلك – اقتنعتُ بجواز إعرابها نائبًا عن المصدر أيضًا؛ باعتبار أصل الجملة قد يكون: فلنعوِّد أنفسنا على ممارسة تلك الرِّياضة ممارسةً يوميَّةً.
ولكنَّ ما لم أستطع أن أقبله أو أهضمه أو أقتنع به أن تُعرَب حالا.
سؤال مهمٌّ:
الرَّجا ممَّن يعرف، أن يجيبنا عن الأسئلة التَّالية:
ما معايير اختيار واضعي امتحانات الثَّانويَّة العامَّة؟ وكيف يُختارون؟ وهل تُقَام مسابقة مثلا للاختيار ويُتَاح لمَن يشاء التَّقديم؟ ام يختارون اختيارا تبعا لهوى من يختار؟ وهل يضع امتحان اللُّغة العربيَّة بكامله شخصٌ واحدٌ أم مجموعة؟ وهل هناك مكافآت ماليَّة مقابل هذا الأمر؟ وما مقدارها؟
فقط لتفهم كيف يفكر هؤلاء الناس: من يختارون (بفتح الياء) ومن يختارون (بضم الياء).
1 فكرة عن “اليوم الحزين في تاريخ النَّحو”
لا لا يا أستاذ يسري
مع احترامي لك
يجب الموافقة على أي وجوه إعرابية
العودة إلى الحق خير من التمادي في الباطل