تأملات في قواعد النحاة
العرب الفصحاء تكلموا ووصلنا كثير من تراثهم، وإن تطرق الشكُّ في بعض ما وصلنا عنهم فقد وصلنا القرآن متواتراً لا يتطرق إليه ذرةُ شكٍّ ولا أصغر من ذلك، وهو أعلى مراتب الفصاحة والبيان والتحدي بإعجازه، وما زال سارياً مُوَجها لمن ينكر فصاحته أن يأتي بآية من مثله.
ثم جاءت قواعد النحاة تاليةً لا سابقة فتنَبَّهْ لهذا الترتيب; لأنه ما سَأحْتجُّ به فيما أودُّ قوله:
العرب الفصحاء تكلموا فجاء النحاة، واستنبطوا من كلامهم القوانين الكلية والقواعد، وهذا النحو الذي اخترعوه ليس موجها للفصحاء، ولا حاكما على كلامهم، ولا على القرآن، بل العكس من ذلك؛ فالصحيح من كلام العرب والقرآن والشعر هو الحكم على صحة القواعد، وليست القواعد هي الحاكمة على كلامهم، بمعنى أنك تُخضِع القاعدةَ وتُجربها على كلامهم، فإن وافقتُه فالقاعدة صحيحة، وإن خالفتُه فالقاعدة غير صحيحة; لكن معيار الصحة هذا درجاتٌ؛ فليس كلُّ العرب فصحاءَ، بل بعض القبائل أفصح من بعض، وأفصحها جميعًا كلام الله بكلّ قراءاته المتواترة; لذا ستجد الحقَّ تارة مع البصريين، وتارة مع الكوفيين، وتارة مع البغداديين، فلا تتقيدْ بمذهبٍ خاصّ; بل كن كالمحققين أمثال ابن مالك وابن هشام، ودُرْ مع الحق حيث دار، واتبع الصواب أو اكتف بأن تكون مقلدا; لكن لا تضعْ نفسك في منزلة المجتهد، وتحكم بصواب تلك اللغة أو المذهب، وتخطئ الأخرى.
– هذا تفريع جانبي – وليس ما أودُّ قوله.
أعود للقضية الأهمِّ، وهي أن كلام العرب وُجدَ أولا، ثم أعقبته قواعدُ النحاة مستنبطةً، ومستقرأة من كلامهم الذي قالوه، والرعيل الأول من النحاة، أمثال الخليل وسيبويه والكسائي، كانوا معاصرين لهؤلاء العرب الذين يحتج بلغتهم وأخذوا عنهم مباشرة، وكانت لهم رحلاتهم للبوادي واﻷخذ عن أهل اللغة، وليسوا كنحاة عصرنا يفصلنا عنهم عشرات القرون، ثم يأتي أحدهم ليخطئ هذا أو ذاك مدعيا أن ما منعوه يراه هو جائزا، فإذا طولب بالدليل من كلام العرب; لم يحر جوابا.
مثال على ذلك:
قال النحاة: إن النعت إذا قطع عن المنعوت وجب إضمار العامل، إلا إذا كان النعت للتخصيص.
مثل : مررت بمحمد الكريمُ – برفع الكريمُ – لا يصح في هذه الجملة أن تقول مررت بمحمد هو الكريمُ وتظهر الضمير (هو).
من أين أتى النحاة بهذه القاعدة؟
مثلُ كل قواعد النحاة استقرءوا الفصيح من كلام العرب، وما وصلنا من شعرهم ونثرهم، وقرءوا القرآن، وعايشوا أهل البوادي فما وجدوهم يقولون: (مررت بمحمدٍ هو الكريمُ ) أو (أعني الكريمَ ).
أنت تريد أن تجيزها، وتقول ما المانع من أن أقول هو الكريمُ أو أعني الكريمَ؟ وتدَّعي أنك لست مقلدا، وأنك تأخذ ما يوافق عقلك.
أتفق معك أن العقل يجيزها، ويقبلها; بل يقبل حتى الكلام العاميّ واللحن، وتفهمه وتستوعبه; بل إننا نستوعب العاميّ من كلامنا ولا نستوعب الفصيح، وليست هذه هي القضية; فالعقل ليس هو المقياس هنا; لأنه كما أسلفت، فالعقل يقبل الصواب ويقبل الخطأ; لأننا لسنا من العرب الفصحاء، وإلا لو كنتَ منهم فما كان عقلُك سيقبلها، ولا لسانك يستسيغها مطلقا، وما كان للعربي أن يتكلم بغير لغته أبدا أو أن يلحن.
وهناك قصص مشهورة منها ما حدث مع أبي حاتم السجستاني حين سمع أعرابيا يقرأ: (طَيبى لهم وحسن مآب ) فقال له : (طوبى )، فقال الأعرابي: (طيبى )، فلما أكثر عليه والأعرابي مُصِرٌّ على (طيبى ) قال له أبو حاتم: (طو طو ) فقال الأعرابي : (طي طي ).
فإذن: ما وضعت القواعد حاكمة على كلام العرب، ولن يغيّر العرب لسانهم لقاعدة قررها النحاة تخالف لغتهم ووضعت القواعد لنا نحن; لكي نتكلم كالعرب، ونلحق بهم لأننا لم نؤت لسانهم وفصاحتهم وسليقتهم ولكن لأنه من الواجب علينا أن نتعلم لغتهم ونقرَّ بشرفها ونؤمنَ بأنها أشرف اللغات وأفضلها، وأنها المختارة من الله لينزل بها كتابَه، فكان لا بدَّ أن يرسموا لنا الحدودَ ويقرروا لنا القواعدَ، ويقولوا لنا هذا كلام العرب إن أردت أن تفهم كلامهم، وتتكلم مثلهم فسِرْ على هذه القواعد تصلْ لمرادك.
أما إن أردت أن تخالفها وترد كلامهم فهذا شأنك لا يوجد ما يرغمك على هذا; لكن لا تقل بعد ذلك إن هذا من كلام العرب، ومقتضى كلامهم؛ فقد خالفتهم، وأبعدت النجعةَ.
البعض يقول: لماذا التزم النحاة حذف خبر (لولا ) حين يكون كونا عاما؟
ما المانع أن أقول: لولا زيد موجود لأتيتك؟
نعم، لا مانع من هذا، لكنك حينئذ لا تتكلم العربية كأهلها; بل تلحن فيها لحن الأعاجم؛ لأن العرب الفصح ما ذكروا خبر لولا في كلامهم، ولو حدث مرة لنقله أئمة اللغة، كن على ثقة من هذا؛ فقد تواترت أمانتهم، وبعضهم قبلت منه قراءة القرآن كالكسائي، وأبي عمرو بن العلاء مثلا.
أتظن أن الأمة تلقت قراءتَهم بالقبول، وكانوا أُمناء على التنزيل، ولم يكونوا أمناءَ في نقل كلام العرب، وأنهم أخفوا الشواهد عمداً عنا; لكي يُقنعوك بصحة قاعدة قعدوها؟ ولماذا؟
ما كان أسهل عليهم أن يقرروا القاعدة بالشكل التالي: يجوز إظهار عامل الرفع، والنصب في النعت المقطوع لغير تخصيص، والشاهد كذا. أو يقولوا يجوز إظهار خبر لولا في الكون العام، والشاهد كذا.
لن يخسروا شيئا لو كانت اللغة هكذا; لكنّ الأمانة والعلم اقتضيا منهم أن يُبلغوك القواعدَ على مقتضى لسان العرب، وإن خالفت عقلك ولم تقنعك.