لماذا نبدأ بالنَّحو؟
لكن إن كنا سنبدأ بشىء، فسنبدأ بالنحو. والأمر يسير جدا إن شاء الله، فلسنا فى حاجة إلى عقد مؤتمرات، واجتماعات، تكلف الدولة أمولا طائلة على المناهج، وواضعيها، ومكافآتهم، ثم فى النهاية تخرج بلا شىء، بل بضرر بالغ متحقق بعقول الناشئة الذين سيقودون الأمة يوما ما، وبالتالى ضرر على الأمة بأكلمها، تضخ الملايين على إضرار الدولة، والدولة تحسب أنها على شىء!
وبديهى أن حال الأمة الآن فى أردى حالاته، وأردئها، بسبب أولئك الذين كانوا يوما ما تلامذة قد عملت فيهم المناهج المُعَوِّقَة عملها، فأخرجتهم مشوهين!
كيف الأمر يسيرٌ؟ ما وهنت العربية قط، ولا وهن الحريصون عليها على مر الزمان، رغم ما حاق بالأمة ما حاق. وإنما وهن أهلها. ولا عجب فى الأمر بعد أن تكفل الله بحفظها، فحفظ الكتاب لا يكون إلا بحفظ العربية، قال (عزّ وجلّ): “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”، وقال أيضا: “بلسان عربى مبين”.
وهؤلاء الحريصون فى عصرنا لم يألوا جهدا فى تيسير العربية؛ وخاصة النحو، وتقريبها للذائقة المعاصرة، بإعادة هيكلة أسلوب النحو، وترتيب أبوابه، واستعمال العربية المعاصرة فى نقل مواده بدل اللغة التراثية العتيقة، التى لا تتناسب وأفهامَ الناشئة، وغير الناشئة. وهم كثيرون جدا، ومؤلفاتهم التجديدية للنحو، وما يتعلق به من فلسفات، تملأ المكتبات. موسوعات كـ(النحو الوافى) مثلا، وغير موسوعات كـ(النحو الواضح). ولا عيب فى عدم فهمنا لتلك التراكيب العتيقة كما يزعم بعضهم، فلم نولد فى زمانهم، ولم نعايش ما عايشوه، وكما أنه من الظلم الحكمُ عليهم بمقاييس من قبلهم(بعد أن تغيرت الظروف)، فإنه من الظلم أيضا الحكم علينا بمقاييسهم لنفس العلة. وكلنا نعلم أن لكل عصر حقولا دلالية معينة تدور فى فلكها المعانى المختلفة، حتى إن الألفاظ تتغير دلالاتها بتغير الزمان والمكان، كـ(الصلاة) قبل الإسلام وبعده، وكـ(البجاحة) التى بمعنى الفرح، ثم اكتسبت دلالة أخرى أومأ إليها مجمع القاهرة، كلنا يعرفها، ويستعملها، تدور حول: انتفاء الحياء، وجمود الوجه فى معاملة الآخرين. وككلمة (القطار) قديما، وحديثا، وككلمة (اعتبر) فقديما بمعنى: أخذ العبرة، واتعظ، وحديثا بمعنى: اعتدّ. وأجازه المجمع أيضا. والأمثلة كثيرة جدا، قديما، وحديثا. وهى ظاهرة لغوية مقبولة. وهذه الحقول الدلالية المستعملة فى أيام السلف فى نقل العلوم، لم تعد هى هى فى أيامنا الحاضرة. وهكذا اللغة، أىُّ لغة؛ حية، متجددة، تميت ألفاظا، وتراكيب، وتحيى أخرى أكثر ملاءمة للعصر، وأحسن تعبيرا عنه. وإلا لبقيت فى حِقبة زمنية لا تجاوزها وماتت. فلم ترغمنى على الدراسة بلغة غير لغتى ودراستى بلغتى سهلة متوفرة؟!
والذى يدفعنى لهذا الإسهاب فى هذا الأمر رؤيتى بمن يطالبون بذلك؛ بتدريس النحو للناشئة من نفس الكتب التراثية؛ ككتب ابن هشام، وابن عقيل، وغيرهما. حتى لا ينقطع خلف الأمة عن سلفها. ودراسة النحو بلغة معاصرة لا تقطع الخلف عن السلف، ولا سيما والنحو علم آلة، غايته إصلاح المنطق، وضبط الفهوم بضبط المعانى.
أما تلك الأساليب العتيقة، والألفاظ المهملة، والشواهد الغابرة، والعلل المتفذلكة، والمتضاربة أحيانا، فهذا كله لا يناسب أبدا ذائقة طالب الإبتدائية، ولا الإعدادية، ولا الثانوية، ولا حتى الثانوية الأزهرية. أفبعدما تُستنفد الطاقة الذهنية فى فك طِلَّسْمات النحاة، واستشكالاتهم، وشواهدهم المغرقة فى الغموض، والتضارب، أفسيبقى فى الدماغ حينها شىء لمسائل النحو المجردة؛ من رفع، ونصب، وجر، وجزم؟! ربما كانت تناسب الطلاب أيام السلف، أيامَ شيوع العلوم العربية، والإسلامية، مع الأخذ فى الاعتبار بصعوبة هذه اللغة النحوية على السلف أنفسهم، وتَفَيْهُق النحويين فى كتاباتهم، وتقعهرهم، وتلغييزهم للمسائل، وتعقيدهم لحبال الكلام، مع التكثيف المرهق للذهن، والتنقير المنفر، والتضخم المروع. كل هذا لأجل فاعل مرفوع، ومفعول منصوب؟! تجد متنا، وعلى المتن شرح، وعلى الشرح تحشية، وعلى التحشية تعليقات، وهوامش!! يجعلون من الحَبَّة قبةً! ولا حرج فى ذلك، وربما كان من مقتضيات الاستقصاء، والبحث العلمى. لكن الحرج كله فى عرض ذلك على الناشئة (كما فى الأزهر الشريف)، وغيرهم من غير المتخصصين. والعربية المنطوقة أسهل ما تكون؛ لخصها الشيخ مصطفى الغلايينى -رحمه الله- فى كتابه (جامع الدروس العربية) فى: كل عمدة مرفوع، وما سواه منصوب؛ إن لم يسبق بجار، أو مضاف، أو كان تابعا لهما. اهـ بتصرف. أىُّ سهولة، وعذوبة، وجمال؟! فإن كان هذا التقعير صعبا على القدماء أنفسم، وتَشِّكيهم الدائم منه، فكيف بنا؟! حتى قال أحدهم: حتى نعلم العلم، ولغة العلم. وما أفعل أنا بلغة العلم (النحو)؟! أستأكّلُنى عيشا؟! بل ستحصر ذهنى فى حِقبة زمنية درست وبادت، ولن أستطيع مواكبة عصرى! ما المانع من دراسة نفس المسائل النحوية بلغتى المستعملة؟! ما المانع من دراسة النحو بغير تلك الشواهد مستغلقة الفهم؟! ما المانع من دراسة النحو بدون ألفية ابن مالك عسيرة الهضم، حتى بعد كل مساعدات الهضم هذه من شروح، وحواش، وتعليقات!! أكل هذا لأتكلم العربية صحيحة؟! تالله إن الإنجليزية ساعتها خيرٌ ألف مرة، وأقومُ، وأعدلُ، وأسهلُ، وأرفعُ، وأفيدُ، وأجلبُ منفعةً، وأصلحُ لسوق العمل، وأقبلُ للعلوم الحديثة (الإنسانية، وغيرها)، وأخصرُ لطريق العلو، والترقى فى المصالح، والشركات الخاصة، والحكومية، وأرجى للهجرة للخارج حيث الحياة الإنسانية الكريمة، والعمل المجزى، والحرية! ثم نعود نبكى شاكين؛ لم هجر النَّشأُ العربيةَ، وتلبسوا بالإنجليزية فى كل مظاهر حياتهم!
نعم، لا حرج من دراسة النحو دراسة مستفيضة من (المتخصصين)، وما أحوجنا إليهم، وإلى تخصصهم! ولا مسيرة للعربية (حتما) بدونهم، ولا فهم لظواهرها بغيرهم، ولا تقعيد لما يَجِدُّ فيها دائما، ولا ضبط لسائبها، ولا تصويب لخطأ أهلها، ولا أحرص عليها، ولا أدعى لها، ولا أنشر لقضيتها، ولا أحسن تأليفا، وتشذيبا، وتسهيلا لها منهم! لكن كما قلت: (للمتخصصين) دون بقية الناس، فلا يُراد من الناس كلهم أن يعلموا الآراء، والعلل، والشواهد، واللهجات، والشذوذ إلخ، إنما فقط يصلحون منطقهم، والسلام.
تنبيه: الأفكار: (للألفاظ صلاحية تنتهى)، و(تفذلك النحاة)، و(التشقيق بأن يكون للمتن شرح، ثم حاشية على الشرح، ثم تعليق على الحاشية) مستفادة من الترجمان المصرى “محمود الفقى” من صفحته على الفايسبوك.