سلسلة (طلاسم نحويَّة لا حلَّ لها )
الحلقة السَّابعة: (مع ) .. لغز الألغاز!!
[رأيي الصَّادم في نهاية المنشور ]
أشهر الخلافات التي تضرب في جذور النَّحو والنُّحاة بخصوص (مع ):
أوَّلا: هل هي اسمٌ مطلقًا، أم اسمٌ مقيَّد بالظَّرفيَّة، أم حرف جرٍّ؟؟
ثانيًا: ما أصل (مع )؟ وما مادَّتها؟؟
ثالثًا: بفرض الاسميَّة والظَّرفيَّة، هل هي ظرفٌ منصوبٌ، أم ظرفٌ مبنيٌّ؟؟
دعونا نلخِّص لكم كلَّ ما ورد من الخلافات بشأن (مع ) في نقاطٍ كالتَّالي:
(1 ) جمهور النُّحاة ذهب إلى أنَّ (مع ) اسم، وليست حرفًا.
(2 ) استند جمهور النُّحاة في كونها اسمًا إلى دليلَين اثنَين:
أوَّلا: ورودها منوَّنةً أحيانًا (معًا )، ومن المعروف أنَّ التَّنوين لا يكون إلا للاسم.
ثانيًا: استندوا أيضًا إلى قراءةٍ (ضعيفةٍ وشاذَّةٍ ) بقول الله تعالى: “هذا ذكر مَن معي وذكر مَن قبلي “؛ بتنوين (ذكر ) بالضَّمِّ، وكسر ميم (من )، يقصدون دخول حرف الجر (من ) على (معي )؛ ممَّا يعني عندهم أنَّها اسم؛ بدليل أنَّ حرف الجرِّ لا يدخل على حرف جرٍّ.
(3 ) أشهر مَن انتصروا لاسميَّة (مع ) من النُّحاة – للأسباب السَّالف ذكرها – (سيبويه )، و (ابن مالك )، و (أبو حيَّان )، و (ابن هشام )، و (الأشمونيُّ ).
(4 ) البعض من أشهر علماء النَّحو أغفلوا (مع )؛ فلم يذكروها في الظُّروف ولا في الحروف، ومنهم: (ابن جني )، و (المبرد ) في كتابه (المقتضب )، و (الزَّمخشريّ ) في (المفصَّل في صنعة الإعراب )، وكذا (ابن يعيش )، وابن الحاجب في (الكافية في النَّحو ).
وأغلب الظَّنِّ أنَّ هؤلاء لم يوردوها في الظُّروف؛ لعدم اقتناعهم بكلام (سيبويه )، وإن كانوا لم يلحقوها بالحروف أيضًا؛ تأثُّرًا – في الغالب – بما يلحقها من التَّنوين.
(5 ) الكثير من معلِّمِي المرحلة الابتدائيَّة يذكرون (مع ) من حروف الجرِّ، ويدرِسون ذلك لتلاميذهم، وسمعتُ الكثيرِين منهم بأذني يقولون إنَّ هذا ما درسوه في صغرهم، بل إنَّ بعضهم أقسَمَ أنَّه لم يسمع في حياته أنَّ (مع ) ظرف!!
(6 ) يعرف آلاف المعلِّمِين أنَّ (مع ) ظرف، ولكن لا أحد منهم يكمل الإعراب أبدًا؛ فلا يقولون: ظرف منصوب، أو ظرف مبنيٌّ، ولا يعرف هؤلاء أنَّ هذه القضيَّة شغلت النُّحاة، واختلفت فيها آراؤهم، بل إنَّ هذا الاختلاف قد احتدم، لدرجة أنَّه لم يُحسَم حتَّى اليوم:
– ففريقٌ رأى أنَّها ظرفٌ معربٌ منصوبٌ.
– وفريقٌ رأى أنَّها ظرفٌ مبنيٌّ على الفتح في في محلِّ نصب.
ملاحظة: وقع (سيبويه ) في تناقضٍ واضحٍ تجاه بناء (مع ) وإعرابها: حيث يذكر في (الكتاب ) أحيانًا أنَّها معربة منصوبة، وأنَّ الفتحة فيها علامة إعراب، ومرَّة يقول إنَّها مبنيَّة جامدة ثنائيَّة الأصل.
(7 ) لم يقل أحد من النُّحاة بكون (مع ) حرف جرٍّ إلا فريق قاده (النَّحَّاس )، وبعض النُّحاة الآخرِين، وحتَّى هؤلاء لم يقولوا بحرفيِّتها مطلقًا، وإنَّما قيَّدوا ذلك بورودها ساكنة العين، وهكذا فقد فرَّق هؤلاء بين (مَعَ ) مفتوحة العين (والتي عدُّوها اسمًا وظرفًا بلا خلافٍ )، و (مَعْ ) ساكنة العين (والتي عدُّوها حرف جرٍّ ).
واستدلُّوا على ورودها ساكنة العين (كحرف جرٍّ ) بقول الشَّاعر:
فريشي منكم وهواي (مَعْكم ) وإن كانت زيارتكم لماما
(8 ) أنكِرَ (سيبويه ) – وأغلب النُّحاة – ورود (مع ) ساكنة العين، ومن ثمَّ حرفيَّتها، وذهب (سيبويه ) أنَّها لم ترد ساكنة العين إلا للضَّرورة الشِّعريَّة، وأنَّ هذا لا يغيِّر من الأمر شيئًا؛ لأنَّه طارئ، وبالتَّالي فهي اسمٌ حتَّى لو وردت ساكنة العين.
(9 ) أنكَرَ الفريق الآخر ما ذهب إليه (سيبويه ) من تقييد ورودها ساكنة العين بالضَّرورة الشِّعريَّة (ومن ثمَّ رفض حرفيَّتها )، بالقول إنَّ ورودها ساكنة العين (وحرفيَتها في هذه الحالة )، ثابتٌ وأصيلٌ في العربيَّة؛ لأنَّ هذه – ببساطة – إحدى لغات العرب (وتحديدًا ربيعة وغنم )، وحمل لواء وجهة النَّظر تلك (أبو جعفر النَّحَّاس ) و (الإسترباذي )، و (المالقيّ ).
(10 ) من أكثر ما أثار الجدل لدى النُّحاة فيما يتعلَّق بها، هو أصلها:
أ – رأى (سيبويه ) أنَّ (مع ) ثنائيُّة الأصل.
ب – بينما ذهب (ابن مالك ) إلى أنَّ هذا غير صحيحٍ، وأنَّها ثلاثيَّة الأصل؛ وأنَّها بالتَّحديد مقصورة، وأنَّ التَّنوين فيها كتنوين (فتى )، واستدلُّ على ذلك بأنَّنا نقول: الزَّيدان معًا، ممَّا يعني وقوعها في محلِّ رفع، ولو كانت ثنائيَّة الأصل كما أشار (سيبويه ) لوجب أن نقول: الزَّيدان معٌ، قياسًا على: هم يدٌ واحدةٌ.
ورغم وجاهة قول (ابن مالك )، وقوَّة حجَّته، فإنَّه ممَّا يرجِّح القول بثنائيَّة أصل (مع ) ما يلي:
1 – ورود لغة ربيعة وغنم بتسكين العين، وهذا دليل لا يقبل الشَّكَّ على أصلها الثُّنائيِّ.
2 – لو كانت مقصورةً كما ذهب (ابن مالك ) لكان أصلها أحد شيئَين: إمَّا (معو )، وإمَّا (معي )؛ حيث إنَّ الألف الثَّالثة لا بدَّ أن يكون أصلها واوًا أو ياءً: فأمَّا (معو ) فهو صوت السَّنانير، وأمَّا (معي ) فجمعها (أمعاء )، وكلاهما لا يمكن أن ينطبق على (مع ).
بل إنَّ الكثيرِين تخبَّطوا في سبيل الوصول إلى أصلٍ ثلاثيٍّ يخرجهم من هذا المأزق، فادَّعى (ابن منظورٍ ) مثلا أنَّ أصلها تضعيف العين (معع )، بل وذهب (الزَّمخشريُّ ) إلى ما هو أبعد، فادَّعى أنَّ أصلها رباعيٌّ وهو (معمع )!! وغنيٌّ عن القول مدى غرابة هذا الطَّرح، وبعده عن المنطق؛ حيث (المعمعة ) هي شدَّة الحرِّ، أو الحرب.
3 – لو صحَّ أنَّ أصل (مع ) ثلاثيٌّ، لوجب النَّسب إليها بالقول: معويّ، ولو يقل أحدٌ بذلك بتاتًا.
[رأيي الصَّادم ]
أنا مقتنع تمام الاقتناع أنَّ (مع ) حرفٌ، وليست اسمًا بأيِّ حالٍ من الأحوال، وأنَّ إعرابها حرف جرٍّ يتَّسق مع العقل أكثر من إعرابها ظرفًا، وبيان ذلك فيما يلي:
[1 ] لم يدفع النُّحاة دفعًا إلى الانتصار لاسميَّة (مع )، والهروب من حرفيَّتها الظَاهرة، إلا ما يلحقها من التَّنوين، وأرى – دفعًا لهذا التَّناقض – ولأنَّ كلَّ شيءٍ فيها يقول بالحرفيَّة، ولا يقطع باسميَّتها المتوهَّمة إلا التَّنوين، أن نفصل بين (مع ) و (معًا )، فنقول إنَّ الأولى حرف، والدَّليل أنَّه ثنائيُّ الأصل، والثَّانية اسم (ومقصور ).
وممَّا يؤكِّد وجهة نظري من اختلاف (مع ) عن (معًا )، وعدم صحَّة ما نظنَّه بأنَّ (معًا ) أصل (مع )، وما أوقعنا فيه ذلك من الاضطرار إلى عدِّ (مع ) اسمًا، رغم مجافاة ذلك للعقل:
أ – أنَّه في حين أنَّ أحد الطَّرفَين يُذكَر قبل (مع )، والطَّرف الآخر يُذكَر بعدها؛ فتقول: جاء محمَّد وأحمد ، فإنَّ الطَّرفَين يُذكرَان قبل (معًا )؛ فتقول: جاء محمَّد وأحمد معًا.
ب – أنَّه في حين يمكن الاستغناء عن (معًا )، التي وظيفتها الوحيدة وصف الهيئة؛ فتقول: جاء محمَّد وأحمد، فإنَّه لا يمكن أن تقول: جاء محمَّد مع، وتسكت.
ج – من المهمِّ جدًّا الإشارة هنا إلى أنَّه في حين وردت (مع ) إحدى وستِّين مرَّةً في القرآن الكريم، فإنَّ (معًا ) لم ترد ولا مرَّة واحدة، وهذا دليلٌ آخر على الاختلاف بين هذه وتلك.
[2 ] ممَّا يدلُّ على حرفيَّتها:
أ – لا تُوصَف ولا يُوصَف بها، ومن المحال أن تكون مسندًا أو مسندًا إليه، ولا يمكن أن تخبر بها كما لا يمكن أن تخبر عنها.
ب – لا تُثنَّى ولا تُجمَع.
ج – لا تدخل في أيِّ جدولٍ تصريفيٍّ ولا إسناديٍّ.
د – لا يأتلف منها مع مثلها كلام.
هـ – لا يأتلف منها ومن الاسم فقط كلام.
و – لا يأتلف منها ومن الفعل وحده كلام.
ز – لا تقبل التَّعريف.
ح – لا تقبل الإضافة.
[3 ] لا تقبل (مع ) علامات الاسم التَّالية:
أ – لا تقبل تنوين التَّمكين.
ب – لا تقبل حرف النِّداء.
ج – لا تقبل التَّعريف.
د – لا تقبل الإضافة.
هـ – لا تقبل الجرَّ (لا بالحرف، ولا بالإضافة ).
و – لا تقبل التَّثنية ولا الجمع.
ز – لا تقبل التَّصغير ولا التَّرخيم.
ح – لو كانت اسمًا لتألَّف منها ومن الاسم كلام.
ط – لو كانت اسمًا لتألَّف منها ومن الفعل كلام.
ي – لا يُخبَر بها، ولا يُخبَر عنها.
ك – لو كانت اسمًا لأمكَنَ تصنيفها إلى نكرةٍ ومعرفةٍ (وهذا لا يحدث ).
ل – لو كانت اسمًا لأمكَنَ تصنيفها إلى مذكَّرٍ ومؤنَّثٍ (وهذا لا يحدث ).
[4 ] أعتقد أنَ القول بظرفيَّة (مع ) هو مجرَّد فرية، اُضطُرَّ إليه النُّحاة اضطرارًا للهروب من ملازمة ما بعدها للجرِّ؛ لأنَّهما عندما أنكروا حرفيَّتها؛ متأثِّرِين بما يلحقها من التَّنوين في كلمة (معًا )، واجهتهم مشكلة جرِّ ما بعدها، ولمَّا كان للجرِّ طريقان: بحرف الجرِّ، وبالإضافة، وبما أنَّهم استبعدوا الحرفيَّة، فقد وجدوا أنَّ المهرب الوحيد هو عدُّها ظرفًا؛ لأنَّ ما بعد الظَّرف مجرور غالبًا.
لكنَّ الحقيقة أنَّك عندما تقول: جئتُك مع العصر، فإنَّ القرينة التي دلَّت على الزَّمانيَّة هنا هي كلمة (العصر )، وأنَّ (مع ) لن تدلَّ على الزَّمان إلا بقرينةٍ، ولو كانت ظرف زمانٍ لما احتاجت إلى قرينةٍ.
انظر لقولك: الله معنا: (مع ) هنا ظرف زمانٍ أم ظرف مكانٍ؟ فالمعنى من الجائز أن يكون الله معنا في نفس المكان؛ فتكون ظرف مكان، ومن الجائز أن يكون الله معنا في كلِّ وقتٍ؛ فتكون ظرف زمانٍ.
واللهِ الذي لا إله إلا هو إنَّني لعلى ثقةٍ بأنَّ أغلب المعلِّمِين يتحيَّرون في تحديد نوع الظَّرف في أغلب الجمل التي تقع فيها (مع )، وليست هذه الحيرة إلا أقوى دليلٍ على عدم منطقيَّة إعرابها ظرفًا أصلا.
[5 ] للتَّأكيد على عدم منطقيَّة الظَّرفيَّة أيضًا، فإنَّك عندما تقول: جئتك عصرًا، فإنَّ (عصرًا ) ظرف؛ لأنَّ الظَّرف (المفعول فيه ) يمكنك أن تضمِّن ما قبله حرف الجرِّ (في )؛ فتقول: جئتك في العصر.
فهل إذا قلتُ: جئتُك مع العصر، أستطيع أن أضمِّن قبل الظَّرف المتوهَّم (مع ) حرف الجرِّ (في ) أيضًا، فأقول: جئتُك في مع العصر؟؟!!
ملاحظة:
تحيَّة من القلب للدُّكتور/ طارق النَّجَّار، وما أورده في بحثٍ منشورٍ له عن الموضوع، ممَّا استفدتُ منه كثيرًا.
1 فكرة عن “سلسلة (طلاسم نحويَّة لا حلَّ لها ) – الحلقة السَّابعة: (مع ) .. لغز الألغاز!!”
مع اسم وليست حرفا بأي حال من الأحوال
وهذا رأي أغلب علماء النحو