يتعجَّب الكثير من الأخوة من جواز وجهَي النِّداء والاختصاص في بعض المواضع، وخصوصًا السَّادة معلِّمي المرحلة الثَّانويَّة، الذين يدرِّسون لطلَّابهم أسلوب الاختصاص.
وللأسف، لا يذكر الكتاب المدرسيُّ (إذا كنَّا سنتوقَّع أنَّ هناك مَن يتعامل مع هذه الكتب بجدِّيَّة، أو يفتحها أصلا )، ولا أيّ كتابٍ خارجيٍّ، أيَّ شيءٍ، عن هذه المسألة، ولذا فما دام الاسم قد سُبِق بضميرٍ، وورد منصوبًا، وأمكَنَ تقدير فعل الاختصاص قبله؛ فالجملة عندهم أسلوب اختصاصٍ قولا واحدًا.
وهم مثلا يدرسون هذه الجملة: أنتم معشر الطُّلَّاب مجتهدون، فيقولون: ما دامت الجملة تصدَّرها ضميرٌ للمخاطب، وكلمة (طلَّاب ) منصوبة، وجاز تقدير الفعل (أخصُّ ) قبل هذا الاسم .. إذن فالأسلوب في الجملة أسلوب اختصاصٍ، و (طلَّاب ) مفعول به لفعلٍ محذوفٍ.
فإذا قلتَ: ولِمَ لا تكون (طلَّاب ) منادى لأداة نداءٍ محذوفة، والتَّقدير: أنتم يا معشر الطُّلَّاب مجتهدون؟ فتحوا أفواههم، وتعجَّبوا من هذا الوجه!! بل إنَّ بعضهم يتغوَّل على الحقِّ فيقول: ما دام الاسم سُبِق بضميرٍ، يجب ترجيح الاختصاص على النِّداء .. يقولها بيقينٍ وثباتٍ .. رغم أنَّ هذا القول ما أنزل الله به من سلطانٍ!! فلا علاقة للضَّمير بترجيح الاختصاص، ولا مبرِّر نهائيًّا لاستبعاد وجه المنادى، ولا مفرَّ من إجازة الوجهَين سواءً بسواء.
ملاحظة مهمَّة جدًّا جدًّا:
لأنَّ النَّحو التَّعليميَّ الحديث يعتمد على الجمل المفردة، والمقطوعة عن أيِّ سياق، يستحيل أحيانًا الحكم هل في الجملة نداء أم اختصاص، ولو كانت العبارة واردةً في سياقٍ حاسمٍ وواضحٍ، فربَّما يمكننا فهم هذا السِّياق، ومن ثَمَّ ترجيح أحد الوجهَين على الآخر.
بدايةً، فإنَّ الاسم المختصَّ يأتي على ثلاث صورٍ:
1 – معرَّفًا بأل.
2 – مضافًا إلى المعرَّف.
3 – لفظ (أيّ ) أو (أيَّة ).
بشرط أن يُسبَق الاسم المختصُّ بضميرٍ (منفصلٍ – متَّصلٍ ) للمتكلِّم غالبًا، وللمخاطب أحيانًا.
فأمَّا الصُّورة الأولى فيستحيل فيها اللبس مع المنادى، وإنَّما هي – في حالة توفُّر الشُّروط – اختصاصٌ مؤكَّدٌ، وبلا أيِّ شبهةٍ للنِّداء.
– نحن المعلِّمِين مخلصون.
أسلوب اختصاصٍ بلا شكٍّ، وإعراب (المعلِّمِين ) مفعول به لفعلٍ محذوفٍ، ويستحيل هنا النِّداء.
أمَّا إذا كان المختصُّ معرَّفًا بالإضافة أو لفظ (أيّ ) أو (أيَّة )، فهو غالبًا يلتبس بالنِّداء [وخاصَّةً إذا كان الضَّمير قبله للمخاطب ]:
– أنتم منفقي المال بحرصٍ غير نادمِين.
– إنَّك صاحب الحقِّ قويٌّ.
من العبث في الجملتَين أن تصرَّ على أنَّ الأسلوب فيهما أسلوب اختصاصٍ؛ لمجرَّد أنّك تدرِّس لطلَّابك أسلوب الاختصاص، وترى أنَّ شروط الاختصاص متوفِّرةٌ هنا (وهي متوفِّرةٌ فعلا )، في حين أنَّ الاختصاص والنِّداء جائزان هنا:
في الأولى:
– يجوز التَّقدير: أنتم – أقصد منفقي المال بحرصٍ – غيرُ نادمِين. [أسلوب اختصاصٍ ].
– ويجوز التَّقدير: أنتم – يا منفقي المال بحرصٍ – غيرُ نادمِين. [أسلوب نداءٍ ].
وفي الثَّانية:
– يجوز التَّقدير: إنَّك – أقصد صاحبَ الحقِّ – قويٌّ. [أسلوب اختصاصٍ ].
– ويجوز التَّقدير: إنَّك – يا صاحبَ الحقِّ – قويٌّ. [أسلوب نداء ].
وأيُّ كلامٍ غير ذلك ضربٌ من الخيال.
– أمَّا في حالة ضمير المتكلِّم، فأنا أفرِّق بين المتكلِّم المفرد والمتكلِّم الجمع:
أ – المتكلِّم المفرد:
يكون الأسلوب اختصاصًا؛ لعدم معقوليَّة النِّداء:
– أنا أيُّها الابن أبرُّ والديَّ. (إذا كنتُ أنا نفسي الابن!! )
هنا اختصاص، والنِّداء لا يُعقَل؛ حيث لن أنادي على نفسي!! وبذلك فإعراب (أيُّ ): مفعول به مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ نصبٍ، لفعلٍ محذوفٍ تقديره (أخصُّ ).
ب – المتكلِّم الجمع:
الالتباس هنا وارد:
– نحن جنود مصر شجعان.
هنا، في هذه الجملة، وخصوصًا عندما تكون مقطوعةً عن أيِّ سياقٍ كاشفٍ، يوجد احتمالان:
الاحتمال الأوَّل:
أن تكون الجملة في مقام الإخبار: أي أنَّ المتكلِّم يقصد الإخبار عن جنود مصر (وهو واحدٌ منهم، ويتكلِّم بلسانهم )؛ قاصدًا الإخبار والوصف، وهنا أرى أنَّ ترجيح الاختصاص يكاد يكون واجبًا.
الاحتمال الثَّاني:
أن تكون الجملة في مقام الخطاب: أي أنَّ المتكلِّم هنا يخاطب مجموعةً من الجنود مثلا، وهنا سيصحُّ الاحتمالان (النِّداء – الاختصاص )، ومن الصُّعوبة بمكانٍ التَّرجيح.
تنبيهان مهمّان:
(1 ) كما أشرنا خلال الأيَّام السَّابقة، لا يجوز الاكتفاء – عند تقدير الاختصاص – بورود ضميرٍ قبل الاسم المختصِّ، وإنَّما ينبغي التَّأكُّد من أنَّ الضَّمير الوارد يعود على الاسم المختصِّ، وإلا فالاختصاص مستحيل:
– أبناءنا طلَّاب المدارس، اجتهِدوا.
بما أنَّ (نا ) لا يمكن أن تعود على المخاطب بعدها، فإنَّ الأسلوب هنا أسلوب نداء، ولا يمكن بأيِّ حالٍ أن يكون اختصاصًا.
(2 ) نحن طلَّاب العلم مخلصون:
لو كان المتحدِّث المعلِّمون؛ فالنِّداء محتوم، والاختصاص مستحيل؛ لعدم عودة الضَّمير على الاسم بعده.
ولو كان المتحدِّث الطُّلَّاب، فالاحتمالان واردان: نحن – أقصد طلَّاب العلم – مخلصون / نحن – يا طلَّاب العلم – مخلصون.
ملاحظة:
لو كانت الجملة منعزلةً عن أيِّ سياق؛ فأنتَ لا تدري على وجه اليقين حقيقة المتكلِّم والمخاطب؛ فلا تجادل، ولا تتقعَّر؛ فالوجهان جائزان!!