(1 ) كأنَّا للمجاورة اقتسمنا ……. فقلبي جارهم والدمع [جاري ]
هذا من الأمثلة المشهورة على التَّورية؛ حيث يقولون إنَّ كلمة (جاري ) تحتمل معنيَين:
الأوَّل: قريب غير مقصود، وهو (مَن يسكن بجواري )، والقرينة كلمة (جارهم ).
والثَّاني: بعيدٌ مقصودٌ، وهو (سائل ).
ورغم أنَّني لا أعترف بكلِّ ذلك؛ حيث وكما أنَّ كلمة (جارهم ) قرينة على أنَّ المعنى القريب غير المقصود هو (مَن يسكن بجواري )، فإنَّ هناك قرينةً أخرى تجاهلوها؛ لغايةٍ في نفس يعقوب، وهي كلمة (الدَّمع ) التي تقطع باحتمالٍ آخر غضُّوا الطَّرف عامدِين عنه، وهو أنَّ المعنى القريب غير المقصود يمكن أن يكون أيضًا (سائل ).
ورغم أنَّني أقرُّ بمدى روعة استخدام الشَّاعر لكلمة (جاري ) في موضعها، لا لأنَّها تدلُّ على معنى قريبٍ غير مقصود، ومعنى بعيد مقصود، كما يزعمون، ولكن لأنَّها تدلُّ على كلا المعنيَين سواءً بسواء، والمعنى المقصود لا يعرفه إلا كاتب البيت، وغير ذلك تزيُّد وادِّعاء.
أقول: رغم كلِّ ذلك، فإنَّني سأنظر إلى البيت نظرةً أخرى، تتعلَّق بتقاطُع النَّحو مع البلاغة، مع العروض؛ حيث:
أ – بلاغيًّا: قالوا إنَّ في البيت توريةً كما أوضحتُ.
ب – أمَّا نحويًّا: فالتَّورية هنا يُفترَض أنَّها ليست موجودةً إلا في أذهان البلاغيِّين، الذين يعشقون تحميل الألفاظ والكلمات والجمل ما لا تحتمله.
وإذا كان البلاغيُّون يرون أنَّ هذه اللَّفظة تحتمل معنيَين (بغضِّ النَّظر عن أكذوبة القريب والبعيد )، فإنَّ النَّحو يُفترَض أن يقطع بأنَّ لتلك الكلمة معنى واحدًا، ممَّا يفرِّغ الجملة من أيِّ علاقةٍ بالتَّورية.
نحويًّا (جاري ) لها معنى وحيد، وهو مَن يسكن بجواري (جار + ياء المتكلِّم )، وليس (سائل )؛ فلو كان معناها (سائل ) لكانت (جاري ) اسمًا منقوصًا، ولمَّا كان المنقوص هنا نكرة، ومرفوعًا؛ فقد كان يجب أن تُكتَب (جارٍ )، أو (جارِ ) بالكسر بلا تنوينٍ (لمراعاة القافية ).
وهذا يشبه: هذا محامي عادل؛ فـ (عادل ) هنا عَلَم على شخصٍ اسمه (عادل ) وليس صفةً من (العدل )، ومعنى الجملة: هذا محامي شخصٍ اسمه عادل، وليس معناها: هذا محامٍ يتَّصف بالعدل، وذلك لنفس السَّبب المذكور عاليًا.
إذن ..
(يُفترَض ) أنَّ كلمة (جاري ) لا يمكن – نحويًّا – أن يكون لها معنيان، ولكنَّ لها معنى واحدًا:
– فإمَّا أن تكون بمعنى (مَن يسكن بجواري ): وفي هذه الحالة ستُكتَب بياء المتكلِّم (جاري ).
– وإنمَّا أن يكون معناها (سائل ): وفي هذه الحالة ستُكتَب بدون الياء (جارِ ).
وبالتَّالي، فهناك اشتباكٌ حادثٌ بين طرفَين:
(أ ) البلاغة: التي يؤكِّد منظِّروها أنَّ بالكلمة توريةً.
(ب ) النَّحو: الذي يقول المتخصِّصون فيه إنَّ الكلمة لا يمكن أن تضمَّ توريةً.
ولكي نحلَّ هذا الاشتباك، علينا أن نذهب إلى العروضيِّين لنسألهم (ولا خبرة لي بالعروض للأسف )، والسُّؤال كالتَّالي:
إذا ردَّ البلاغيُّون على هذه الشُّبهة – وهذا ما أتوقَّعه – بأنَّه يجوز للشَّاعر أمورٌ، منها إعادة ياء المنقوص المحذوفة هنا، فهل يجب بالقطع إعادة الياء (إشباع المدِّ ) ليستقيم الوزن فعلا؟ أم أنَّه لا حاجة لذلك، ويكفي لاستقامة الوزن كسر الرَّاء؟؟
أو بمعنى آخر: لو افترضنا أنَّ الشَّاعر يقصد (سائل ) فهل لو كتبه بالصُّورة التَّالية سيكون الوزن مكسورًا (ولذا يجوز له إضافة الياء ):
كأنَّا للمجاورة اقتسمنا ……. فقلبي جارهم والدمع جارِ
ننتظر رأي الإخوة المتخصِّصِين في العروض: فإن صحَّ أنَّ الوزن لن يستقيم إذا اكتفينا بكسر الرَّاء، وأنَّ إشباع المدِّ هنا ضروريٌّ وواجبٌ ولا غنى عنه، فسيكون هذا دليلا لا يقبل الشَّكَّ على صحَّة التَّورية هنا.
(2 ) قالوا: التمس لك خادمًا قلتُ لهم ……. أنَّى يكون لقائل الشِّعر [الرَّقيقْ ]
هنا ستتداخَل البلاغة مع النَّحو فقط (ولا علاقة للعروض بالموضوع ):
وقبل أن أستطرد، فلعلَّكم تعلمون بأنَّ البلاغيِّين أجمعوا على وجود توريةٍ في (الرَّقيق )؛ حيث:
– المعنى الأوَّل لها: (من الرِّقِّ ).
– والمعنى الثَّاني: (من الرِّقَّة ).
وهنا لمحةٌ (نحويَّةٌ / بلاغيَّةٌ ) بديعة، أحببتُ أن أشارككم إيَّاها:
ما جوَّز وجه التَّورية في كلمة (الرَّقيق )، هو ورودها ساكنةً فقط؛ أمَّا لو كانت القافية قافًا متحرِّكة، لكنَّا أمام احتمالَين:
الأوَّل: أن تكون كلمة (الرَّقيق ) بالضَّمِّ؛ مرفوعةً؛ لكونها اسمًا لـ (كان ) مؤخَّرًا (والخبر شبه الجملة المقدَّمة: لقائل الشِّعر ).
والثَّاني: أن تكون مكسورةً، مجرورةً؛ لكونها نعتًا لـ (الشِّعر ) قبلها.
واللَّمحة الثُّنائيَّة (النَّحويَّة / البلاغيَّة ) التي حدَّثتكم عنها، هنا:
1 – إذا افترضنا – جدلا – أنَّ قافية الأبيات قافٌ مضمومة: أنَّى يكون لكاتب الشِّعر (الرَّقيقُ )، لانتفت التَّورية واستحالت؛ إذ سيكون للرَّقيق هنا معنى واحد لا غير، وهو (العبد )، وتقدير الجملة سيكون:
أنَّى يكون الرَّقيقُ لكاتب الشِّعر
ومن الواضح أنَّها هنا لا تحتمل معنى (الرِّقَّة ) بأيِّ حالٍ من الأحوال.
2 – وإذا افترضنا أنَّ قافية الأبيات قافٌ مكسورةٌ، لكان إعراب (الرَّقيق ) نعتًا مجرورًا لـ (الشِّعر )، وسيكون اسم (كان ) في هذه الحالة ضميرًا مستترًا، وخبرها شبه الجملة (لكاتب الشِّعر الرَّقيق )، ولكان التَّقدير:
أنَّى يكون (هو / ذلك / الرِّقُّ ) لقائل الشِّعرِ الرَّقيقِ
وفي هذه الحالة ستنتفي التَّورية تمامًا أيضًا؛ لأنَّ لـ (الرَّقيق ) في هذه الحالة معنى واحدًا لا معنيَين، وهو (الرِّقَّة ).
إذن ..
لو وردت مضمومةً، لاستحالت التَّورية.
ولو وردت مكسورةً، لاستحالت التَّورية.
لأنَّ الكلمة لها معنى واحد في الحالتَين (وإن كان معناها في الأولى مختلفًا عن معناها في الثَّانية ).
وهكذا ..
على البلاغيِّين أن يقدِّموا الشُّكر لنعمة (السُّكون )، الذي هو المبرِّر الوحيد لوجود التَّورية هنا؛ فنحن مع السُّكون، والسُّكون وحده، لا نعرف يقينًا هل معنى الكلمة مشتقٌّ من (الرِّقِّ )، أم مشتقّ من (الرِّقَّة )؛ فصار في الكلمة تورية؛ لاحتمالها المعنيَبن معًا!!
فكرتين عن“عندما تتقاطع البلاغة، مع النَّحو، مع العروض!!”
ما شاء الله
يوجد خيط رفيع وبديع يجمع بين كل علوم العربية
شكرا لكم على هذا الإبداع