لقدْ أجْمع جمهورُ النُّحاة منذُ الخليل – رحمه الله – على أنَّه إذا وقعتْ ياء المتكلم في موضع نصْب، وكان ناصبها فعلًا؛ وجَب زِيادة حرْف النون بينها وبيْن الفعل؛ لوقاية الفِعل مِن الكسر، إذ تتطلَّب الياء كسرةً قبلها مِن جنسها؛ لكونها حرفَ عِلَّة، فتتحمل النون هذه الكسرةَ نيابةً عن الفعل الذي يمتنع على الكسْر، حتى يظلَّ محتفظًا بعلامة إعرابه أو بنائه؛ حيث لو كان الفِعل ماضيًا احْتُفِظَ له بعلامة بنائه (الفتحة ) كما في (ساعدَنِي )، وإذا كان الفعل مضارعًا احْتُفِظَ له بعلامة إعرابه (الضمَّة ) كما في (يمنحُنِي )، وإذا كان الفعل أمرًا احْتُفِظَ له بعلامة بنائه (السكون ) كما في (علِّمْنِي ).
وجميع معلِّمِي مصر – فيما أعلم – يتبنُّون وجهة النَّظر تلك، ويتعاملون معها على أنَّها بدهيَّة ومن المسلَّمات.
ولكنَّنا اليوم سنعرف أنَّ طبيعة هذه النُّون موضع خلافٍ بين النُّحاة، وأنَّ وظيفتها مختلفٌ عليها، وأنّ فكرة كونها تقي الفعل من الجرٍّ مشكوكٌ فيها!!
أولاً: آراء المؤيِّدِين:
تزعَّم الفريق الذي انتصر لفكرة وقاية الفعل من الجرِّ كلٌّ من: الخليل بن أحمد، وابن مالك في كتابه “شرْح الكفاية الشافية “، وابن هشام، وابن يعيش.
وكان (ابن يعيش ) أكثر مَن تصدَّى لهذه المسألة باستفاضةٍ؛ حيث قال في “شرْح المفصَّل “: “اعلم أنَّ ضمير النَّصب إذا كان للمتكلِّم، واتَّصل بالفِعْل نحو: ضربني وخاطبني وحدَّثني؛ فالاسم إنَّما هو الياء وحْدَها، والنون زائدة، ألا تراها مفقودةً في الجر مِن نحو غلامي وصاحبي، والمنصوب والمجرور يستويان، وإنَّما زادوا النون في المنصوب إذا اتَّصل بالفِعل؛ وقايةً مِن أن تدخله كسرةٌ لازِمة، وذلك أنَّ ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلاَّ مكسورًا، إذا كان حرفًا صحيحًا نحو: غلامي وصاحبي، والأفعال لا يدخلها جرٌّ، والكسر أخٌ للجر؛ لأنَّ معدنهما واحد، فكما لا يدخل الأفعالَ جرٌّ، آثَروا ألاَّ يدخلها ما هو بلفظه ومِن معدنه؛ خوفًا وحراسةً مِن أن يتطرَّق إليها الجر، فجاءوا بالنون مزيدةً قبل الياء؛ ليقعَ الكسر عليها، وتكون وقايةً للفعل من الكسْر، وخصُّوا النونَ بذلك لقُرْبها مِن حروف المد واللِّين؛ ولذلك تُجامعها في حروف الزِّيادة، وتكون إعرابًا في: يفعلان وتفعلان ويفعلون وتفعلون وتفعلين، كما تكون حروفُ المد واللين إعرابًا في الأسماء المعتلَّة “.
وخلاصة ما ذهب إليه (ابن يعيش ):
1- أنَّ ضمير النصب للمتكلم عندَه هو الياء وحْدَها.
2- وأنَّ النون زائدة.
3- وأنَّه قد زِيدت النون؛ تحصينًا للفعل مِن أن يتطرَّق إليه الجر.
وأيَّد هذا الرَّأي من المحدثِين (عبَّاس حسن ) في (النَّحو الوافي ) أيضًا.
ثانيًا: آراء المعارضِين:
هذا الفريق رأى أنَّ النُّون التي تتَّصل قبل ياء المتكلِّم ليس الهدف منها الوقاية من الكسر كما أُشِيع، وأنَّ هذه النُّون ليست زائدة، ولا يصحُّ فصلها عن الياء، ولذا فقد عدُّوا ضمير النَّصب في مثل (أعطاني ) هو (ني )، وليس الياء، وبذا فقد عدُّوا من ضمائر النَّصب ضميرًا اسمه (ني )، ولم يعدُّوه مكوَّنًا من ضمير النَّصب + نون الوقاية كما ذهب غيرهم.
وتزعَّم هذا الفريق (سيبويه )، الذي خالَفَ أستاذه الخليل، و (ابن قتيبة ).
ورغم أنَّ فكرة وقاية الفعل من الجرِّ قد سادت وشاعت لدى الجميع، فإنَّ ثمَّة تساؤلاتٍ مؤرِّقةٍ تنقض هذه النَّظريَّة من أساسها، ومنها:
1 – إذا كانت وظيفة النُّون وقاية الفعل من الجرِّ، والذي لا يصحُّ كسره كما قالوا، فلماذا دخلتِ الكسرة الأفعال، وبقيتْ بدون حراسة منها في مِثل قولك: (ساعِدِ المحتاجَ )؟
2 – لماذا زِيدتِ النونُ فيما آخِره ألِف مِن الأفعال رغم أنَّ مظنَّة الكسر فيها بعيدة؟!!
وذلك في مِثل (أعطاني وكساني )؟ فلماذا زِيدت النُّون إذن، رغم أنَّه لا خوف على الفعل من الكسر؟!!
3 – لماذا دخلتِ النونُ الحروفَ وهي ليستْ أفعالاً، فقلنا (إنَّني – ليتني …. إلخ )؟!!
وقد توقَّع (ابن يعيش ) بعض هذه الأسئلة؛ فاحتاط للأمر، وأورد عنها بعض الإجابات في كتابه، إلا أنَّه وقع في تناقضٍ كبيرٍ أحيانًا؛ فمثلا قال: “وقدْ أدخلوا هذه النونَ مع (إنَّ وأخواتها )، ممَّا يُعَدُّ حروفًا؛ فقالوا: إنَّني وأنَّني، وكأنَّني ولكنَّني، ولعلني وليتني؛ لأنَّها حروف أشبهتِ الأفعال وأُجريت مجراها، فلزِمها ما يلزم الفِعل من علامة الضمير”.
ولما أحسَّ أنَّه سيكون متناقضًا في قوله إذا قيل له: “لقدْ وردتْ شواهدُ فصيحةٌ حُذفت النون فيها مِن هذه الحروف، وخاصَّة (إنَّ: إنِّي – وأنَّ: أنِّي – ولكنَّ: لكنِّي – وكأنَّ: كأنِّي )، فأين ذهبت المشابهة التي بيْنها وبيْن الأفعال؟!
فقال هروبًا مِن هذا المأزق: “لقد ساغ حذفُ النون من هذه الحروف؛ لكثرة استعمالها في كلام العرب، ولاجتماع نونَين في آخرها، وهم يستثقلون التضعيفَ ولم تكن أصلاً في لحاق هذه النون لها، وإنَّما ذلك بالحمْل على الأفعال، ولاجتماع هذه الأسباب أجازوا حذفها “.
وكالعادة، فقد أحسَّ أنَّ هذا القول متناقض؛ لكونه لا ينطبِق على (لعلَّ )؛ لأنَّها ليستْ من ذوات النون، ومع ذلك تُستخدَم بدون تلك النُّون أحيانًا (لعلِّي )، قال معلِّلًا حذفَها منها: “وقد حذَفوها من (لعلّ )، فقالوا: لعلِّي؛ لأنَّه وإن لم يكن آخرُه نونًا، فإنَّ اللام قريبة مِن النون؛ ولذلك تدغم فيها في نحو قوله تعالى: ﴿مِنْ لَدُنْهُ ﴾ [النساء: 40]، فأُجريتْ في جواز الحذْف مجراها “.
تناقضٌ محيِّرٌ، ولكنَّ الأسوأ من هذه التَّناقضات، أنَّ (ابن يعيش ) حينما وجَد الأفعال قد حملتْ عليها الحروف، أجرى الحروف مجراها في إلْحاق النون، وقد فات ابنَ يعيش أنَّ الأفعالَ هي التي تحمل على الحروف في بنائها، وليس العكس.
ومع ذلك، فمن الأسئلة المحيِّرة التي لم يُجِبْ عليها (ابن يعيش ) ولا غيره ممَّن عدُّوا وظيفة تلك النُّون وقاية الفعل من الجرِّ – بالإضافة إلى التَّساؤلات السَّابقة -:
– إذا كانت القضيَّة قضيَّة كسر الفعل، فلماذا لم يَمنعوا كسْر الأمْر في مِثل (اضربي )؟
– ما فائدة دخول النُّون قبل تاء الفاعل المكسورة في (ضربتِ: ضربتِني ) مثلا؟ أليست التَّاء قبلها مكسورةً أصلا؟!!
– ما رأي هؤلاء في حذْف الياء وبَقاء النون في كثيرٍ مِن المواضع في القرآن الكريم؟
– قال (ابن هشام ) إنّ نون الوقاية تتَّصل بالأفعال (متصرِّفةً وجامدةً ) قبل ياء المتكلِّم، ومع ذلك فقد برَّر سقوط النُّون من (ليس ) بالضَّرورة في قول الشَّاعر:
عَدَدْتُ قَوْمِي كَعَدِيدِ الطَّيْسِ
إِذْ ذَهَبَ القُومُ الكِراَمُ ليْسِي
فما هي هذه (الضَّرورة )، ولمَ لم يعمِّم القاعدة على بقيَّة الأفعال؟
– لماذا دخلت النون في مِثل (تسمعونني )، مع أنَّ آخِر الفعل (تسمعون ) المرفوع بثبوت النُّون، بعيدٌ عن مظنَّة الكسْر؛ لأنَّ الفِعل الأصليَّ َ(تسمع )، والواو دالَّة على الفاعِل ضمير رفْع، وهو كلمة أخرى، ثم النون، وهي علامةُ إعْراب فرعيَّة تنوب عن الضمَّة، بمعنى أنَّ المسافة واسعةٌ بيْن آخر الفِعل (العين )، وبيْن النون التي يقولون عنها للوقاية.
– أجاز هؤلاء دخول نون الوقاية على أسماء الأفعال أيضًا، في مثل (دراكني ) و (تراكني )، فأين الكسرُ الذي يخشَوْن وقوعَه على آخِر (دراكني ) و (تراكني )؟ أليستْ هذه الصِّيغ مبنيَّة على الكسْر أصلًا، سواء أدخلتها الياءُ أم لا؟!!