قبل أن تقرأ ….
لا مشكلة عندي أن تكرهني بعد قراءة هذا المقال، ولكنَّني – رغم ذلك – سأصدع بكلمة الحقِّ.
أنا مؤمن تمام الإيمان بما يلي:
(أوَّلا ) الدُّروس الخصوصيَّة ليست جريمةً، ولا حرج على أيِّ معلِّم يعطي دروسًا خصوصيَّة، وهو لا يرتكب خطأ، ولا يأتي حرامًا.
المعلِّم كالطَّبيب تمامًا، يحقُّ له أن يقدِّم لك الخدمة خارج الفصل الدِّراسيِّ، بعد انتهاء اليوم الدِّراسيِّ، مقابل أجرٍ، تمامًا كما يقدِّم لك الطَّبيب استشارته مدفوعةً، وكما يقدِّم لك المهندس استشارته مدفوعة.
(ثانيًا ) الدَّولة هي المسئول الأوَّل عن انتشار الدُّروس الخصوصيَّة، وتوغُّلها داخل المجتمع، بإصرارها على تنحية الوضع الماليِّ المزري للمعلِّمِين جانبًا، واحتقارها للمعلِّم شكلا وموضوعًا، ووضع المعلِّم في قاع أولويَّاتها، ومنحه أجورًا شهريَّة يتقاضاها تلاميذهم في ورشهم أسبوعيًّا، ناهيك عن منح الأولويَّة المطلقة لمهن ووظائف لا تُقَارَن بمهنة المعلِّم، وما يقدِّمه من أجل مجتمعه (كالجيش والشُّرطة والقضاء وغيرها )، والتي يتقاضى العاملون فيها عشرات أضعاف ما يتقاضاه المعلِّمون.
(ثالثًا ) هناك (قلَةٌ ) من المعلِّمِين الذين يعطون دروسًا خصوصيَّةً، يعرفون أنَّهم أوَّلا وأخيرًا أصحاب رسالةٍ، ويتعاملون مع أولياء الأمور بكلِّ إنسانيَّةٍ، ومنهم مَن يعفي الأيتام وغير القادرِين من الدَّفع، ومنهم مَن يترفَّق بالأهالي، ويعطي بأجورٍ رمزيَّةٍ.
ومع ذلك ….
فإنَّني أنظر حولي إلى ما يحدث في مجال الدُّروس الخصوصيَّة؛ فأشعر بالعار أن يتحوَّل (غالبيَّة المعلِّمِين ) العاملِين في هذا المجال إلى مجموعةٍ من القراصنة مصَّاصِي الدِّماء، الشَّرهِين إلى المال، الذي صاروا شوكةً في ظهر الأسر المصريَّة، وسببًا إضافيًّا من أسباب شقائها ومعاناتها.
نسي هؤلاء تمامًا أنَّ لهم رسالةً في هذه الحياة، وحوَّلوا العلم إلى مجرَّد سلعةٍ، ليست المشكلة أنَّها تُبَاع بالمال، وإنَّما المشكلة أنَّها تُبَاع بأضعاف أضعاف قيمتها.
يتقمَّص هؤلاء قبل بداية كلِّ عامٍ شخصيَّة العصابة الشِّرِّيرة، ويبدءون في التَّواصل فيما بينهم؛ عاقدِين النِّيَّة على رفع الأسعار، ورغم أنَّ (غالبيَّة ) مَن يعمل في هذا المجال، لا يضمر لزملائه العاملِين معه في نفس المجال، إلا الحقد والبغضاء والكراهيَّة، إلا أنَّهم يتناسون – في هذه اللَّحظة – خلافاتهم وأحقادهم، ويقرِّرون أن يتكاتفوا معًا، وأن يكونوا يدًا واحدةً؛ في سبيل رفع الأسعار (تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى ).
لا يرقبون في أبٍ مقهورٍ، ولا في أم تربِّي أبناءها الأيتام، إلًّا ولا ذمَّةً.
فإذا ذهبت الأم المسكينة إلى أحدهم تستجديه ليستثني أولادها من رفع الأسعار، أو (ينفحها ) بخصمٍ، فإنَّه ينظر إليها باحتقارٍ، قائلا: ما تتشطَّروا على الحكومة!!
ينقم هذا السَّفَّاح مصَّاص الدِّماء من أولياء الأمور؛ لأنَّهم لا يتحمَّلون ظلم سيادته، كما يتحمَّلون ظلم الحكومة، ويطمع أن يخنع أولياء الأمور ويتذلَّلوا له، كما تعوَّدوا على الخنوع والاستسلام للحكومة التي تقهرهم ليل نهار.
فإذا سألتَ أحدهم: لماذا أنتم طمَّاعون إلى هذا الحدِّ؟ لماذا ماتت قلوبكم إلى هذه الدَّرجة؟ يقولون لك: ألا ترى الأسعار؟
حسنًا أيُّها الشِّرِّير .. لماذا لا تفكِّر أنتَ أيضًا – في المقابل – أنَّه كما أنَّ لك ابنًا يحتاج أن يأكل، فإنَّ لهؤلاء الآباء المنكوبِين عشرات الأبناء يحتاجون أن يأكلوا أيضًا؟ لماذا تضع ابنك المحظوظ في كفَّةٍ، ومائة ابنٍ في مجموعتك في كفَّةٍ؛ فيأكل ابنك المحظوط على جثث العشرات من أبناء هؤلاء؟
الطَّالب الواحد بـ 100 جنيه، و 150 جنيه، و 200 جنيه، وما خفي كان أعظم!! والـ 100 السَّنة دي 150 العام القادم، والـ 150 السَّنة دي 200 العام القادم، والـ 200 السَّنة دي 300 العام القادم .. وتستمرُّ الشَّراهة إلى ما لا نهاية.
امتهنتم العلم، وأهنتموه، وارتضيتم لأنفسكم أن تلعبوا دور التُّجَّار المرابِين اليهود.
حوَّلتم العلم إلى سوقٍ للنِّخاسة، ولعبتم دور تجَّار الرَّقيق، وحوَّلتم التَّلاميذ الصِّغار إلى مجرَّد عبيدٍ وجوارٍ، والآباء والأمَّهات إلى بقرةٍ حلوبٍ تحلبونها إلى آخر قطرة.
ليس عيبًا – كما قلتُ – أن تلجأ لمنح استشاراتٍ مدفوعةٍ لطلابك (الدُّروس الخصوصيَّة )، ولكنَّ العيب كلَّ العيب، والعار كلَّ العار، أن تجلد ظهور المصريِّين المطحونِين الجائعِين، بلا قلبٍ، وبلا رحمة.
1 فكرة عن “سوق النِّخاسة .. أقصد الدُّروس الخصوصيَّة!!”
سرطان التعليم في هذا العصر هو الدروس الخصوصية
لكن المسئول أولا وأخيرا هو الحكومة التي لا تحرص على تحسين الحالة المادية للمعلمين